“إن عدم تأمين بيئة آمنة للسد ومحيطه وإبعاده عن العمليات العسكرية ينذر بعواقب وخيمة”
الخلفية: الجغرافيا والأهمية الاستراتيجية
يقع سد تشرين في منطقة منبج ويبعد عن مدينة حلب 115 كيلو متراً وعن الحدود التركية 80 كيلو متراً. يُستفاد من هذا السد في توليد الطاقة الكهربائية وتخزين المياه لأغراض الزراعة ،وتبلغ طاقة تخزين السد 1.9 مليار متر مكعب. وبشكل أكبر يعتمد عليها أهالي مقاطعة الفرات ومنيج التي باتت الآن تحت سيطرة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركياً بشكل مباشر. كما أن سد تشرين مع سد الفرات يغطيان 90 في المئة من احتياجات شمال شرق سوريا من الكهرباء، بما فيها التيار اللازم لمحطات ضخ المياه. تكون حصة سوريا من مياه نهر الفرات 6.627 مليار متر مكعب وحصة العراق 9.106 مليار متر مكعب وحصة تركيا 15.700 مليار متر مكعب في السنة، وتم إنشاء سد تشرين عام 1999، وهو ثاني أكبر السدود في سوريا من حيث حجم الطاقة والإنتاجية. ويتم تزويده بأحدث الآلات الإلكترونية والتقنيات الحديثة، ويحتوي على العديد من المنشآت الأساسية، مثل ساحة الأبراج ومحطة التوزيع وغرفة التحكم وصالة الآلات. ويقدر إنتاج السد من الكهرباء بـ 642 ميغاوات، حيث يحتوي على 6 عنفات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتزن كل عنفة 1900 طن، وتستطيع كل واحدة منها توليد أكثر من 100 ميغاوات من الكهرباء. كما تقدر الطاقة الاستيعابية للبحيرة المتشكلة خلف السد بنحو 1.9 مليار متر مكعب من المياه. وفي عام 1994، قامت سوريا بتسجيل الاتفاقية المبرمة مع تركيا لدى الأمم المتحدة لضمان الحد الأدنى من حقوق سوريا والعراق في مياه نهر الفرات. ويعتمد سكان شمال شرقي سوريا على ثلاثة مصادر للمياه، سواءً للشرب أو الاستعمالات المنزلية أو الزراعية أو الصناعية أو غيرها من الاستخدامات. وبالإضافة إلى مياه الأمطار والمياه الجوفية، اعتُبرت الأنهار عصب الحياة في المنطقة تاريخياً. تخدم مصادر المياه هذه المجتمعات المحلية والمهجّرين والنازحين داخلياً، حيث تغطي احتياجات ما يقدّر بـ 4,800,000 مستفيد/ة، من بينهم أكثر من مليون نازح داخلي. واجه السد على مدار السنوات الماضية وحتى الآن العديد من التحديات، فقد تعرض خلال النزاع السوري لأضرار نتيجة القصف والاشتباكات، ما أثر على كفاءته، ثم تأتي هجمات التركية لتفاقم الوضع بشأنه.
في هجوم مزدوج من قبل فصائل الجيش الوطني وتركيا جواً، استولت الفصائل على مدنية منبج وصولاً لجسر قراقوزاق وسد تشرين، والتي أصبحت تلك المناطق خطاً للمواجهة بين قوات سوريا الديمقراطية من جهة والفصائل الجيش الوطني السوري/تركيا من جهة أخرى، وأثناء تلك الفترة تعرض سد تشرين للعديد من الضربات وحدثت فيها معارك، إلا أن هجوماً مضاداً لقوات سوريا الديمقراطية طرد الفصائل لعدة كيلومترات إلى الوراء.
بعد الهجمات التي شنتها تركيا والفصائل المدعومة منها، توقف السد عن الخدمة بشكل كامل، كما تعرض السد لضربتين بواسطة الطائرات الحربية التركية، وهذا حسب ما قالته منظمة حقوق الإنسان في مقاطعة الفرات لمركزنا. ومنذ ذلك الحين يتجه أهالي شمال شرق سوريا صوب سد تشرين للاعتصام والاحتجاج ضد الهجمات التركية والفصائل المدعومة منها التي تستهدف السد والمنطقة. إلا أن الطائرات التركية استهدفتهم مراراً، ما أدى إلى فقدان عشرات المدنيين لحياتهم وجرح آخرين. أغلب الهجمات كانت بواسطة الطائرات المسيرة. استطاع مركز معلومات روج آفا توثيق قطع والشظايا التي تتطايرت من الصاروخ أو القذيفة التي أُطلقت من الطائرة التركية، كما أُجري عدد من المقابلات مع المدنيين المحتجين في السد وعاملين في مجال الصحة هناك.
تحذيرات بخصوص انهيار السد
وقد أدت الضربات على السد بالفعل إلى إتلاف التوربينات، وقطع الكابلات الأساسية، وتسببت في حدوث تسربات، وأدت إلى انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة، وفرق الصيانة غير قادرة حالياً على دخول السد لإعادة توصيل الكابلات وتشغيل مضخات نزح المياه اللازمة لمنع حدوث الفيضانات وتلف المعدات. ومع اشتداد القصف، يتخوف مسؤولون في إدارة السدود من انهيار السد في أي لحظة، ما قد يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية.
بالنسبة لمنسوب بحيرة سد تشرين، يقول حمود الحمادين، إداري في سد تشرين، أثناء لقاءه مع مركز معلومات روج آفا، بأنه بعد خروج السد عن الخدمة، تم فتح بوابات المفيض وفق ارتفاع محدد ومدروس لتمرير المياه بطريقة تحافظ على بنية السد دون المرور بالعنفات، مما يسمح بالاستفادة منها في توليد الطاقة الكهربائية وتخفيف العبء عن سد الفرات. وقال بأنه يتم الحفاظ على منسوب شبه ثابت، مع بقاء حوالي مترين ونصف فقط من منسوب البحيرة قبل الوصول إلى المنسوب الميت. وأخرجت المعارك القتالية السد تماماً عن الخدمة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تضررت العديد من الأنظمة والمعدات الرئيسية والثانوية، مما أدى إلى خروج معظمها عن الخدمة، وتسبب في التوقف الكامل لسد تشرين. حسب ما قاله الحمادين.
وأكد الرئيس المشترك لهيئة الطاقة في الإدارة الذاتية “زياد رستم“، في موقع سد تشرين، أن الهجمات التركية المستمرة منذ شهرين تسببت في أضرارٍ جسيمة، بما في ذلك انقطاع التيار الكهربائي عن السد وارتفاع مناسيب المياه في الأجزاء السفلية إلى مستويات خطيرة، داعياً إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الاعتداءات. وبخصوص الحالة الفنية للسد، يصفها حمادين بـ “سيئة جداً“، يوجد تقطع في كابلات القدرة بين العنفات وساحة التوزيع، إضافة إلى كابلات القدرة التي تربط السد بالشبكة العامة. حيث يؤكد:” تعرضت التجهيزات الداخلية للتضرر نتيجة غمرها بالمياه، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بساحة التحويل، والتي لم نتمكن من تقدير حجمها بسبب صعوبة الوصول إلى الموقع بشكل عام، تحتاج جميع أنظمة السد وتجهيزاته إلى الصيانة، كما يجب إخضاعه للاختبار قبل محاولة إعادته إلى الخدمة.” إن توقف سد تشرين لا يعني انقطاع التغذية الكهربائية عن المنطقة وحسب، بل يشمل أيضاً قطع التغذية عن محطات الضخ الرئيسية التي تزود المناطق بالكامل بمياه الشرب والري، مما جعل تأمين المياه تحدياً كبيراً.”
إضافة إلى ذلك، فإن معظم المياه المتوفرة غير صالحة للشرب، فضلاً عن ارتفاع أسعارها بشكل كبير، حيث أصبح السكان يعتمدون على الصهاريج لتلبية احتياجاتهم، ووصل سعر خزان المياه (5 براميل) إلى حوالي 70 ألف ليرة سورية. هذه الأزمة تُضاف إلى سلسلة المعاناة التي يواجهها سكان المنطقة على جانبي النهر وجانبي سد تشرين، عدا المعاناة السابقة التي لقوها نتيجة استهداف البنى التحتية بعد استهدافها من قبل الطائرات التركية. كما أن المنطقة تشهد مرحلة من الجفاف نتيجة الموسم القاسي الذي تمر به، وخروج سد تشرين عن الخدمة أدى إلى استنزاف بحيرة سد الفرات، لأن التوليد أصبح يعتمد على سد الفرات للحفاظ على مياه البحيرات، والتي بالكاد تلبي حاجات الشرب والري. وإذا لم يتحسن الوارد المائي من الجانب التركي ويعود سد تشرين إلى الخدمة، فنحن مقبلون على نفس الوضع السابق، مما يعني موسماً صيفياً وخريفياً قاسياً جداً، حيث ستكون المناسيب قريبة من المناسيب الميتة.
يؤكد حمادين إن: “عدم تأمين بيئة آمنة للسد ومحيطه وإبعاده عن العمليات العسكرية ينذر بعواقب وخيمة، إذ إن عدم التمكن من الدخول الآمن للكادر الفني الكامل لإجراء الصيانات اللازمة يهدد بنية السد بالكامل. وخروج السد عن الخدمة يعني توقف محطات الشرب والري، مما سينعكس سلباً على الاقتصاد والبنية التحتية للمواطنين.”
في تقرير نشرته “هيومن رايتس وواتش” بتاريخ 30 يناير/كانون الثاني 2025 بخصوص الهجمات التي استهدفت السد: “إن الغارة التي شنها تحالف تركيا و“الجيش الوطني السوري” بطائرة مسيّرة وأصابت سيارة إسعاف تابعة لـ “الهلال الأحمر الكردي” في 18 يناير/كانون الثاني 2025، في شمال سوريا، هي جريمة حرب مفترضة. “ كما وجهت منظمة “هيومن رايتس ووتش” انتقادات متكررة لتركيا على دورها في أزمة المياه بسوريا، وقالت المنظمة الدولية إن “ تقاعس السلطات التركية عن ضمان إمدادات مياه كافية لمناطق سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا يضر بقدرة المنظمات الإنسانية على تجهيز المجتمعات الضعيفة لحمايتها. ونشرت مصادر إعلامية تابعة لقوات ”ردع للعدوان“ مقطع فيديو يوثق عملية استهداف لسد تشرين شرق سوريا. حيث يظهر الفيديو تجمعا للمدنيين من الأكراد أثناء احتجاجهم على السد، وتم إلقاء ضربة في منتصف التجمع. قالت هيومن رايتس ووتش: “نشر حساب تابع للجيش الوطني السوري، الذي تدعمه تركيا، فيديو صوّر بمسيّرة للغارة على الأشخاص قرب السد، إلا أنّ هيومن رايتس ووتش لم تتمكن من تحديد ما إذا كانت الغارات بالمسيّرات قد نفذتها “القوات المسلحة التركية” أو الجيش الوطني السوري. اعتاد المتظاهرون التجمع حول سد تشرين لردع الهجمات المستمرة التي يشنها تحالف تركيا والجيش الوطني السوري في محيط السد وسط مخاوف من انهياره. وقد أصابت أربع هجمات على الأقل شنها تحالف تركيا والجيش الوطني السوري خلال يناير/كانون الثاني متظاهرين قرب هذا الموقع، مسفرةً عن مقتل 20 وجرح 120 آخرين، وفقا لـ “قوات سوريا الديمقراطية“، التي يقودها الأكراد وتدعمها الولايات المتحدة.”
بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر 2024، وجهت “تآزر” نداءً عاجلاً إلى المجتمع الدولي لتحذيرهم من المخاطر الوشيكة التي تهدد “سد تشرين” نتيجة الأعمال القتالية في محيطه. يمثل السد شريان حياة لملايين السكان في شمال سوريا، حيث يوفر المياه والكهرباء الضروريتين للمنطقة، لكن الهجمات المستمرة تُهدد بانهياره، مما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وبيئية واسعة النطاق. وفي 14 كانون الأول، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية، إنها قدمت بالتعاون مع الهلال الأحمر العربي السوري، دعماً مهماً لإجراء تقييمات وصيانة عاجلة لسد تشرين، بهدف ضمان سلامته واستمراره في العمل بأمان، وحماية سكان القرى المجاورة من أي مخاطر محتملة.
استهداف محطات ضخ المياه
في هذه الفترة الأخيرة، استهدفت تركيا عدداً من محطات ضخ المياه في مقاطعة الفرات، منها من هدمت وتدمروت بالكامل، وقالت مديرية مياه في مقاطعة الفرات لمركزنا، بأن عدد من مضخات المياه وخزانات المياه التابعة لها تدمرت بشكل كامل، بسبب استهدافها من قبل الطائرات التركية، ومنها: خزان المياه العالي في قرية “كرده” الذي كان يزوّد سبع قرى كبيرة بالمياه، حيث تم استهدافه بواسطة الطيران الحربي، مما أدى إلى هدمه بالكامل، حيث قالت المديرية بأنهم لا يستطيعون الوصول إلى موقع الخزان وتقدير الأضرار بسبب استهدافات المسيرات التركية المتكررة. وأيضاً المحطة الرئيسية لضخ المياه إلى مدينة كوباني وخمسين قرية في ريفها الغربي، مما أدى إلى تدميرها وخروجها عن الخدمة تماماً. والخزان الرئيسي الأرضي لمدينة عين عيسى، مما تسبب في تعطيله بالكامل. ومحطة مياه “مليحة” في مدينة صرين، والتي تغذي المدينة وقراها، لمحطة المياه المغذية لقريتيّ “الهيشة” و“الفاطسة“. والآن، يتم تعذية كوباني وصرين بالمياه بواسطة آبار ارتوازية سطحية. حيث قال مسعود بوزي الرئيس المشترك لمديرية المياه في مقاطعة الفرات: “أن مدينة كوباني وصرين تُغذيان حالياً بالمياه عن طريق آبار ارتوازية سطحية عبر المناهل، وهو حل مؤقت لكنه كارثي نظراً لعدم كفايته لسد احتياجات السكان. “ وأكد بوزي أن “الهجمات التركية على محطات المياه كبدت مديرية المياه خسائر مالية هائلة تُقدر بحوالي مليون دولار أمريكي، مما زاد من صعوبة إعادة تأهيل المواقع المتضررة.
معاناة المدنيين ودعوات للتدخل الدولي
قال أحد المدنيين في مدينة كوباني لـ مركز معلومات روج آفا: “ يمكننا القول بأن المياه مقطوعة بشكل كامل عن المنطقة. إنها ليست أول مرة، نعاني هذه الأزمة منذ سنين. أحياناً اضطر لشراء خزان من المياه من الصهاريج بمبلغ 60 ألف ل.س، والذي يكفيني لمدة 3 أيام. لا أستطيع الاستحمام، ونغسل ثيابنا مرة في الأسبوع، لكي نوفر كمية المياه المتواجدة لدينا، كونه أنا عامل ولا استطيع شراء المياه في كل يوم، العوائل هنا في منطقتنا بحاجة ماسة إلى المياه. هذه الاستهدافات الدائمة أثرت بشكل كبير على مجالات العيش الأخرى كالصحة والزراعة التي يعيش عليها سكان المنطقة ويكسبون منها قوتها. على المجتمع الدولي أن يضع حداً لهذه الممارسات.”
“نناشد جميع الأطراف المعنية تحمل مسؤولياتها الإنسانية والعمل على تحييد سد تشرين ومحيطه عن العمليات العسكرية، لضمان استمرار إمدادات المياه والكهرباء، وتخفيف معاناة السكان، والحفاظ على الاستقرار البيئي والاقتصادي في المنطقة.” حمود الحمادين، إداري في سد تشرين.
الأبعاد القانونية والخاتمة
إن توقف سد تشرين لا يعني انقطاع التغذية الكهربائية عن المنطقة وحسب، بل يشمل أيضًا قطع التغذية عن محطات الضخ الرئيسية التي تزود المناطق بالكامل بمياه الشرب والري، مما جعل تأمين المياه تحدياً كبيراً. يحظر القانون الإنساني الدولي على الأطراف المتحاربة استهداف البنية التحتية المدنية، بما في ذلك البنية التحتية للطاقة، إلا في حال استخدامها لغرض عسكري، وحينها يجب تقديم أدلة لتسويغ الضربات، كما يحظر البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف على وجه التحديد “استخدام وسائل أو أساليب للقتال، يقصد بها أو قد يتوقع منها أن تلحق أضراراً بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد”. ولكن في جميع أنحاء العالم، لم يلتزم المتحاربون، حتى الآن، كثيراً بهذه الأحكام، التي يصعُب إخضاع مُنتهكيها للمساءلة في المحاكم الدولية.
وقد تم توسيع هذه المخاوف بشكل أكبر في قائمة جنيف للمبادئ المتعلقة بحماية البنية التحتية للمياه بموجب المبدأ 12 وفي القاعدة 10 من المبادئ التوجيهية للجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن حماية البيئة في النزاعات المسلحة . وتوضح كلتا الوثيقتين كيف يمكن “جعل البنية التحتية للمياه عديمة الفائدة“. بصورة مماثلة، تنص قواعد برلين لعام 2004 بشأن الموارد المائية التي وضعتها رابطة القانون الدولي بموجب المادة 51 على أنه “لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقوم المقاتلون بمهاجمة أو تدمير أو إزالة أو جعل المياه ومنشآت المياه التي لا غنى عنها لصحة وبقاء السكان المدنيين عديمة الفائدة إذا كانت هذه الأعمال قد تؤدي إلى عدم جدوى من المتوقع أن يترك السكان المدنيين بدون مياه كافية مما يؤدي إلى وفاتهم بسبب نقص المياه أو إجبارهم على الحركة.