عودة تنظيم الدولة.. ماذا وراء أحداث سجن الحسكة السوري؟

,

نقلاً عن : الجزيرة نت

قبل أيام، أعادتنا الأحداث المرعبة في سجن “الصناعة” في حي غويران بالحسكة السورية إلى عام 2013، حين هوجم سجن أبو غريب سيئ السمعة في العراق من قِبَل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وأُطلق سراح أكثر من 500 من أعضاء التنظيم. وقد تمخَّض عن ذلك الهجوم آنذاك الصعود الصاروخي للتنظيم بين عامَيْ 2013-2014، واستيلاؤه على الأراضي السورية والعراقية، وأخيرا، تأسيس “دولة الخلافة” فوق بقعة جغرافية شاسعة.

أثار الهروب الجديد من السجن السوري، الذي سقط فيه عشرات القتلى، التساؤل حول ما إذا كانت الجماعة مستعدة لشن عمليات مصيرية في البقعة الجغرافية التي يحكمها الأكراد المتمركزون في الشمال الشرقي لسوريا، كما سلَّط الحادث الضوء على جهود التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم، وجهود الحليف المحلي المُتمثِّل بقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. وبوضوح أكثر، كشفت عملية الهروب عن وجود تحديات جمة في عملية القضاء على فلول داعش الذين أظهروا قدرة فائقة على التكيُّف مع المتغيرات والظروف الأمنية في العراق وسوريا.

تتزايد إذن، يوما بعد يوم، احتمالية عودة ظهور داعش في سوريا والعراق، بعد أن أكَّدت أحداث سجن الصناعة أن التنظيم الذي اعتقدنا أن عناصره سيبقون خلف أسوار السجون المُحصَّنة قادر على شن هجمات منسقة، وأن خلاياه النائمة قد تعاود الظهور من جديد بوصفها تهديدا أخطر من ذي قبل.

ATTENTION EDITORS - SENSITIVE MATERIAL. THIS IMAGE MAY OFFEND OR DISTURB A Syrian Democratic Forces affiliate points a gun outside a prison while in clash with the Islamic State militants in Hasaka, Syria January 22, 2022, in this screen grab taken from a video. Video recorded January 22, 2022. North Press Agency Digital/Handout via REUTERS THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY. MANDATORY CREDIT. MUST NOT OBSCURE LOGO

عودة أحداث “داعش” الدموية

منذ فرَّ آلاف من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عقب هزيمتهم عام 2019 إلى مناطق الظل النائية بين العراق وسوريا، تعهَّد التنظيم مرارا بتحرير أسراه من السجون التي وُضعوا فيها. ومن أجل ذلك نفَّذ التنظيم نحو 22 عملية استهدفت السجون التي تحوَّلت إلى مسرح للهجمات المميتة في سوريا، ومعظمها يقع في الجيب الجغرافي الذي يسيطر عليه مقاتلو “قسد”، وفق بيانات شركة الأبحاث “جهاد أناليتكس” المتخصصة في تحليل أنشطة الحركات المتطرفة.

هناك في شمال شرق سوريا، وبالتحديد على أطراف مدينة الحسكة، حوَّلت الميليشيات الكردية التي شاركت مع الولايات المتحدة ودول أخرى لمحاربة تنظيم الدولة مُجمَّعا خُصِّص سابقا ليكون معهدا تدريبيا إلى واحد من أخطر سجون سوريا، حيث زُجَّ فيه نحو 3500 من أعضاء داعش بالإضافة إلى مئات الأطفال، وقد أُطلق على هذا السجن الأكبر من بين 14 مركز احتجاز تقع تحت سلطة “قسد” اسم “سجن الصناعة”. ولم ييأس سجناء التنظيم طيلة السنوات الثلاث الماضية من محاولة الهروب، وأتت آخر محاولاتهم (الفاشلة) في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، غير أن قوات سوريا الديمقراطية أحبطت المحاولة التي اشتملت على تفجير سيارات مفخخة وتهريب أسلحة.

ثمَّ أتت المحاولة الأخطر للهروب من السجن في 20 يناير/كانون الثاني 2022، وحسبما أفادت وكالة “أعماق”، وهي منصة إخبارية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فقد هاجم نحو 100 عنصر من التنظيم محيط سجن الصناعة بعدما اخترقوا أربعة حواجز في المنطقة الأمنية والعسكرية التابعة لـ”قسد”، قُرب قواعد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ثم فجَّروا جدار السجن بسيارة مفخخة واقتحموه. ولم يكتفِ عناصر داعش بذلك، بل توغَّلوا داخل مدينة الحسكة حيث امتد العنف إلى منطقتَيْ الغويران والزهور المجاورتين، ثمَّ اقتحموا منازل المدنيين وقتلوا بعضا منهم، وفي فظاعة تُذكِّرنا بحكم داعش السابق لتلك المنطقة، قطع

لكن بعد ستة أيام من المعارك الدامية، أعلن الأكراد استعادتهم السيطرة الكاملة على السجن، بعدما حاصروا المسلحين وأجبروهم على الاستسلام، ومن ثمَّ ظهر هؤلاء في طوابير طويلة منهكين في ساحة السجن بعد استسلامهم، كما لوحقت الخلايا النائمة للتنظيم في الأحياء المجاورة. ولم تكن عملية السيطرة لتتم دون مساعدة الأميركيين، إذ استخدمت في المعركة المدرعات والمروحيات الهجومية والغارات الجوية، علاوة على مشاركة 200 جندي أميركي في القتال.

يؤكِّد لنا الصحافي السوري “سامر الأحمد”، وهو من الحسكة، أن الهجوم أظهر أسلوبا جديدا مختلفا عن تكتيكات تنظيم الدولة القديمة القائمة على السيطرة العسكرية، التي انتهت فعليا مع هزيمة التنظيم في معركة الباغوز ربيع عام 2019. فمنذ عام لجأ التنظيم إلى إستراتيجية جديدة تُعرف باسم “الذئب المنفلت”، وهي تعتمد على الهجوم المباغت بهدف إيقاع الخسائر واغتنام الأسلحة لا السيطرة على الأرض.

أضاف الأحمد في حديثه لـ”ميدان” أن الهدف من حادثة سجن الحسكة كان تحرير قيادات التنظيم المعتقلين في السجن، فقد تم تحرير العشرات من قيادات وعناصر التنظيم ونقلهم إلى مكان آمن في البادية السورية: “حتى اليوم لا نستطيع أن نقول إن العملية انتهت، الحدث الأمني الخطير هو أن التنظيم غيَّر إستراتيجيته في التعامل مع مختلف قوى الصراع في سوريا، وهو أمر سيؤثر على إستراتيجيات شتى القوى الدولية الضالعة في المشهد السوري والعراقي ويؤدي إلى استنفارها”.

“داعش” يهز عرش القوة الكردية

داعش

مع استمرار المعركة حتى الآن، يلفت النظر مصير 850 طفلا لا تتجاوز أعمارهم 12 عاما كانوا محتجزين في سجن الصناعة، فقد حوصر هؤلاء مع مقاتلي تنظيم الدولة وقُتِل بعضهم وهرب آخرون، والأخطر أن داعش استخدمهم دروعا بشرية. ولم يكن التحدي الوحيد الذي واجه القوات الكردية هو احتمالية استخدام الأطفال دروعا فحسب، بل إن بعض هؤلاء الأطفال تلقَّوا تدريبا على شن هجمات انتحارية وعمليات تُمهِّد الطريق لمقاتلي داعش حتى يتسنَّى لهم التسلُّل بسهولة إلى المناطق المدنية.

في الأخير، أثبتت حادثة سجن الصناعة هشاشة النظم الأمنية لـ”قسد”، ويُرجع سامر الأحمد سبب تلك الهشاشة إلى عجز القوات الكردية عن تكوين جسر ثقة تام مع القوات الأميركية من جهة، ومع عشائر المنطقة وسكانها العرب من جهة أخرى، لا سيما في منطقة جنوب الحسكة وشرق دير الزور التي تنشط فيها خلايا التنظيم حاليا وكانت آخر معاقل داعش قبل سقوطه. وقال الأحمد إنه وجب التعامل مع هذه المنطقة بإستراتيجية مغايرة عبر إشراك أبنائها في إدارة منطقتهم وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، مُضيفا: “إلى جانب أهمية التركيز على الجانب الأمني والعسكري، يجب التركيز على بناء جسر مع السكان من خلال سياسات إدارية واقتصادية وأمنية، منها تشكيل قوى أمنية من أبناء هذه المنطقة، ما يقطع الطريق على أي محاولة لاختراق المنطقة من جانب خلايا التنظيم”.

علاوة على ذلك، أخبرنا الباحث المختص بشؤون المنطقة الشرقية في سوريا “أنس شواخ” أن روسيا لديها رغبة في إشراك النظام السوري في عمليات محاربة تنظيم الدولة، سواء في إدارة السجون أو في العمليات الأمنية ضد التنظيم التي تعتمد فيها قوات التحالف اعتمادا كاملا على “قسد”، وهو ما أدَّى إلى تباين بين الإستراتيجية الروسية ونظيرتها الأميركية، فبعد الهجوم الأخير بدأ الجانب الروسي استغلال الخرق الأمني الذي تعرَّضت له قوات “قسد” والتحالف، حيث “تعتبر روسيا أن ’قسد‘ وقوات التحالف الدولي فشلوا في محاربة التنظيم ومنع هجومه الأخير، ومن المتوقَّع أن يستغل الجانب الروسي هذا الهجوم استغلالا أكبر في الأيام القادمة بتعزيز مواقعه”.

أحد أهم التحديات أمام “قسد” الآن هو تراجع ثقة المجتمع المحلي والمجتمع الدولي بها نتيجة الخرق الأمني الذي تعرَّضت له، مع إمكانية تكراره في حربها المستمرة مع التنظيم، لا سيما أن هذا الخرق أدَّى إلى حالة من انعدام الثقة داخل البنية التنظيمية لـ”قسد” نفسها بين العناصر من جهة والقيادة من جهة وفق ما أشار إليه “شواخ”، وهو ما يُضاف إلى حالة النقمة لدى نسبة كبيرة من السكان في مناطق سيطرتها نتيجة ممارساتها ضد السكان وعمليات التغيير الديمغرافي لصالح الأكراد والتجنيد الإجباري، وهو وضع يُشكِّل بيئة خصبة لداعش كي تقوم بعمليات الاختراق. هذا ويُحسَب لـ”قسد” أنها كانت سريعة الاستجابة العسكرية، إذ حشدت 10000 مقاتل في يومَيْ المعركة بالحسكة، واستعادت زخم الدعم الدولي الذي فقدته منذ عام 2019، لا سيما مع استمرار الضغط التركي من أجل التراجع عن دعمها.

واشنطن وإعادة الحسابات مع “داعش”

epa09716789 US soldiers stand next to their armed truck during a mop-up operations with Syria Democratic Forces (SDF) in Hasaka, northeastern Syria, 29 January 2022. The US-backed Syria Democratic Forces (SDF) announced that they had retaken full control of Ghwayran prison in the city of Hasaka and re-arrested dozens of jihadists holed up in the prison and in nearby houses, after a major jailbreak attempt from the so-called Islamic State group (IS or ISIS) militants. EPA-EFE/STRINGER

“التحالف واثق من تقييمه بأن محاولة الهروب الأخيرة من داعش لن تُشكِّل تهديدا كبيرا للعراق أو المنطقة”.

(بيان فرقة العمل المشتركة لعملية العزم الصلب، التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة)

بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من خسارة “داعش” لآخر رقعة من أراضيها، جاءت حادثة سجن الصناعة لتُعيد تذكير العالم بقدرة التنظيم على تنفيذ أعمال عنف واسعة النطاق، فرغم أن واشنطن لا تزال تحتفظ بنحو 700 جندي في شمال شرق سوريا لمساعدة “قسد” في محاربة فلول داعش، فإن حادثة السجن كشفت المساحة الكبيرة التي منحها الانسحاب الأميركي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 لعودة التنظيم إلى تجميع صفوفه. ففي المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، لا سيما في دير الزور ذات الأغلبية العربية، يتقاسم عناصر داعش عائدات النفط المنتج في المصافي المؤقتة مع السكان، ويسرقون أغنامهم، ويبنون شبكة من المتعاونين لتسهيل أعمالهم.

لكن القوات الأميركية، التي أعلنت أن مهمتها بعد عام 2019 هي إضعاف داعش ومنع ظهوره من جديد، باتت اليوم ترى بأم أعينها حوادث مشابهة لحادثة سجن الصناعة وإن كانت أقل خطورة، فقد وثَّق مركز معلومات روجافا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وحده 14 هجوما أعلن داعش مسؤوليته عنه، وكان مخيم الهول الشهير الذي يؤوي نحو 10000 امرأة وطفل من داعش مسرحا لهجمات مميتة ضد القوات الكردية، فضلا عن عمليات التنظيم الأخيرة التي استهدفت الجنود داخل الأراضي العراقية.

وقد كشفت معركة السجن أن جهود التحالف بقيادة الولايات المتحدة، الذي قدَّم تمويلا بملايين الدولارات للمساعدة في تحسين الأمن في مراكز الاحتجاز وتدريب القوات الكردية، لم تعالج الكثير من المشكلات الإنسانية والأمنية في المنطقة، فمنذ زج الأكراد بآلاف من عناصر داعش وعائلاتهم في السجون ومعسكرات الاعتقال التي كان من المفترض أن تكون مؤقتة، رفضت معظم الدول استعادة مواطنيها منهم، وبقي التطرف يترعرع في تلك السجون التي تحدَّثت تقارير حقوقية عديدة عن حالها المُزري بالنسبة لآلاف الرجال والفتيان المحتجزين فيها.

Foreign prisoners, suspected of being part of the Islamic State, lie in a prison cell in Hasaka, Syria, January 7, 2020. REUTERS/Goran Tomasevic/File photo TPX IMAGES OF THE DAY SEARCH "GLOBAL POY" FOR THIS STORY. SEARCH "REUTERS POY" FOR ALL BEST OF 2020 PACKAGES.

كانت تلك الحادثة بمنزلة جرس إنذار للمجتمع الدولي بأن داعش لم ينتهِ بعد، وأن عناصره قادرة على العودة للرد في الزمان والمكان الذي تختاره. ورغم أن من المُستبعَد أن يؤدي الهجوم في الوقت الحالي إلى تغيير جذري في إستراتيجية التحالف لمحاربة التنظيم، فإنه سيؤدي إلى مراجعات كما أوضح الباحث أنس شواخ، “منها إجراءات أمنية وعسكرية ولوجستية بغية حماية وتأمين قوات التحالف الدولي من خطر الهجمات، مثل تعزيز قوات التحالف الدولي في الفترة القادمة، والقيام بعمليات أمنية واسعة غالبا سيشارك فيها التحالف الدولي مع ’قسد‘”.

يتوقَّع شواخ في حديثه لـ”ميدان” أن يقوم التحالف بتجهيزات أمنية وعسكرية أشد لحماية مصالحه التي قد تكون هدفا لهجمات تنظيم داعش، مثل القواعد العسكرية التي تتمركز فيها قوات التحالف، ولا يستبعد أن تُفضي نتائج التحقيق في الظروف التي سمحت بحدوث هذا الهجوم إلى إعادة رسم قوات التحالف لإستراتيجيتها في محاربة التنظيم، وبالأخص ما يتعلَّق بقدرته على اختراق “قسد”، مُضيفا: “هذا الاختراق كافٍ ليُثبت قدرة التنظيم على القيام بعمليات أخرى، وهي عمليات لن تكون ضد السجون فقط بالضرورة، بل ستستهدف مصالح إستراتيجية أو مواقع مهمة لـ’قسد‘ أو حتى لقوات التحالف الدولي، ومن المتوقَّع أن نشهد عمليات أخرى للتنظيم قريبا، خاصة في المواقع التي وصلت إليها العناصر الفارة من السجن، وهي الرقة وريف دير الزور الشرقي وريف الحسكة الجنوبي”.

في نهاية المطاف، يمكن القول إننا ما زلنا بعيدين عن المقارنة بين ما يجري حاليا وما جرى بين عامَيْ 2013-2014 عندما بدأ داعش بالصعود، بيد أن ما حدث في الأيام الماضية لن يمر مرور الكرام، إذ إن عناصر تنظيم الدولة يُعيدون تجميع صفوفهم فيما يبدو، مما يُنذر بثورة دموية ستظل تُذكِّر الولايات المتحدة وحلفاءها بنقاط ضعفهم المستمرة منذ إعلان نصرها على التنظيم قبل ثلاث سنوات، وستظل تُذكِّرهم بأن ثمَّة أسئلة جوهرية فيما يتعلَّق بمحاربة الإرهاب وإحلال الاستقرار في سوريا والعراق لم يُجِب عنها أحد، أبرزها العلاقات بين العرب والأكراد.